كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا، ومن جملة أضرار الخمر الالتهاب المزمن في الحنجرة والمعدة وقد يصاب الكبد بنوع من هذا الالتهاب المزمن ويسمونه (سروزس الكحول) وهو مرض يكثر عند مدمني الخمر، وكثيرا ما يؤدي إلى الموت إذا انحبست الدّودة اليابية في الكبد، لأن شدة حرافته تهري هذه الأعضاء مع الرّئة أيضا فيحصل له الموت آنيا كالمسلول المنتهي.
وقد ثبت طبا أن أعمار مدمني الخمر وقدرتهم على مقاومة الأمراض أقل بكثير من غيرهم، وقد جرب هذا في طائفة من الأرانب واتضح أن مقاومة الطائفة التي ألفها شراب الخمر مع الماء لهذا المرض اقل بكثير من مقاومة طائفة الأرانب التي لم يعطوها ذلك وأقل أعمارا منها وثبت أيضا أن نسل مدمني الخمر أضعف من غيرهم، وإن القلب يتأثر من كثرة الغول، وإن إدمان الشّرب يصلّب الشرايين بحالة قد تقضي إلى الموت.
وثبت أيضا أن مدمن الخمر معرض لمرض عصبيّ يسبب الموت بأول صدمة ويسمّونه (ولربم ترنز) وقد يؤدي هذا المرض إلى الرّعشة والهذيان وقلة النّوم، بل يفضي لعدمه، وإذا لم يسارع إلى التداوي فإنه يجره إلى الموت المقدر له على ذلك، وقد يعتريه هذا المرض لعدم حصوله على ما يكفيه من الشّرب الذي اعتاده، أجارنا اللّه، لأنه كلما زاد من الشّراب تخرقت تلك الأعضاء الكريمة، فيحتاج إلى ملئها ومتى ما نقّص فرغت تلك الحروق، فيحتاج إلى أن يشرب أكثر من معتاده لملئها، إذ قد يفضي فراغها إلى وقف الدّم فتبطل حركته فيحصل الموت وهلة.
وما قيل أن الخمر تدفئ الجسم حتّى يكاد شاربها يتصبب عرقا من الحرارة فهو قيل عار عن الصّحة، لأن المشاهدات الطّيبة والعادية أثبتت خلاف هذا، وعدم فائدة الجسم بالتدفئة، لأن هذه المسألة عرضت على بساط البحث في المؤتمر الدّولي التاسع عشر في بلجيكا، وظهر أن تأثير الخمر الظاهر في تدفئة الجسم عقيب تناولها إنما هو شعور كاذب، إذ يعقبه انخفاض في درجة حرارة الجسم حتى عن حالته الطّبيعية، وقد أثبت هذه الحقيقة بصورة جلية المشاهدات الحسية في جزيرة (ايسلندا) التي هي من أشد البلاد بردا، وقد كثر بين أهليها الوفيات لدرجة عظيمة وتبين أن السّبب في ذلك استغناؤهم عن مكافحة البرد بشرب الخمر الذي سبّب صعود الدّم بتأثير الغول من داخل الجسم إلى سطح الجلد فأبادته برودة الجو تدريجا وانتهت الحياة بانتهاء الحرارة من الجسم.
وهذا كمن يستعمل المقويات للجماع فإن ما يراه من القوة الحسية منحوتة من دمه بسبب تلك المقويات لا منها، وهؤلاء كثيرا ما يفلجون أو يموتون فجأة.
ومما يؤيد هذا ما حدث لأصحاب الرّحالة العالمي الدّكتور (سكوت) حينما وصل بهم إلى القطب الجنوبي وكان نهاهم عن الشّرب لما شاهد من تأثيره المميت في تلك الأجواء الباردة، وان منهم حينما اشتد عليه البرد لجأ إلى الشّراب خلافا لتعاليمه التي ذكرهم بها فما كان منهم إلّا أن لقوا حتمهم، والّذين تقيدوا بتعاليمه فلم يشربوا نجوا من الموت.
وجاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن ديلم الحميري قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قلت يا رسول اللّه إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح، وفي رواية من الذرة، ونتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال هل يسكر؟ قلت نعم، قال فاجتنبوه، قلت إن النّاس غير تاركيه، قال إن لم يتركوه فقاتلوهم.
وهذه معجزة خالدة في هذا.
ومن جملة معجزاته قوله صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها.
وذلك لما أطلعه اللّه على ما ذكر من تأثيرها فيما سبق في هذا وغيره مما سيظهر بعد، وإنما لم يذكر حضرة الرّسول لهذا السّائل ضررها المادي لعدم إدراكهم إيّاه في زمنه، ولأنه يريد ألا يسألوا عن العلل لما أمر اللّه به ونهى عنه، ويريد أن يمتثلوا ما يأمرهم به من نفسه كأمر اللّه تعبدا وانقيادا وإذعانا لأمره أيضا دون فتح باب للسؤال عن العلّة والسّبب، لأنه لا ينطق عن هوى، بل بما يلهمه ربه، ولهذا قال تعالى: {ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية 7 من سورة الحشر المارة، فكان أمره أمر اللّه ونهيه نهيه، وان كثيرا من أفعال اللّه لا تعلل، وهو لا يسأل عما يفعل، وهذا ما أردنا ذكره في الخمر، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وسيرى ندم الآخرة على عدم الامتثال أشد من ندم الدّنيا.
وأما الميسر فقد قدمنا ما يتعلق به من المضار في الآية 22 من سورة البقرة بصورة واضحة فراجعها، وهو مشتق من اليسر، لأنه أخذ المال بسهولة، وكان النّاس في الجاهلية يقامرون على أموالهم وأهليهم، فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله، ولذلك نهى اللّه عنه وأكد رسوله نهيه، ألا فليعلم العاقل أن اللّه تعالى لم ينهنا عن شيء إلّا بقصد نفعنا لكونه مضرا لنا في ديننا ودنيانا وعاقبة أمرنا، ولم يأمرنا بشيء إلّا لنفعنا في الأحوال الثلاثة أيضا، وقد أباح اللّه لنا الطّيّبات واللّهو في غير ما حرم، وليس بعد الحلال إلّا الحرام، ولا بعد الحق إلّا الضّلال فنحمده ونشكره، وهو القائل جل قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا} أكلوا وشربوا مما حرم عليهم أو لعبوا بالقمار وشربوا الخمر وأكلوا من الكسب الحرام أو فعلوا كلّ محرم قبل نزول تحريمه، فكله عفو لهم لأنهم لم يخالفوا فيه إذ لم يحرم عليهم أولا {إِذا مَا اتَّقَوْا} هذه المحرمات واجتنبوها بعد تحريمها، وما هنا صلة لتقوية الكلام وتحسينه أي إذا اتقوا وسنأتي على بحثها في الآية 136 من سورة التوبة الآتية إن شاء اللّه، فإذا امتنعوا عنها {وَآمَنُوا} باللّه ورسوله إيمانا خالصا وأذعنوا لما نهوا عنه أولا وآخرا {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} بعد إيمانهم واجتنابهم المنهيات {ثُمَّ اتَّقَوْا} جميع ما حرم عليهم في مستقبل زمنهم {وَأَحْسَنُوا} عملهم فيما بينهم وبين ربهم وخلقه أجمع فقد أحسنوا لأنفسهم وغيرهم {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (93) من خلقه وهنيئا لمن أحبه اللّه.
وقد ذكرنا في سورة البقرة عند قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} الآية 23 المارة وفي الآية 38 من سورة يونس ج 1 وفي مواضع أخرى أنه لا يوجد في القرآن حرف زايد أصلا، وأن كل حرف فيه يؤدي معنى خاص، كما أن ما هنا أي في قوله تعالى: {إِذا مَا اتَّقَوْا} ليست بزائدة كما يقول البعض لأنها تؤدي معنى أنهم غير واثقين بالتقوى لعدم الاعتماد على النّفس، وهذا شأن المؤمن، فقد جاء في البخاري أن بعض السّلف الصّالح عرف عددا من الاصحاب يخشون النّفاق على أنفسهم لشدة تقواهم وقلة وثوقهم بأنفسهم، فتأمل رحمك اللّه فائدة الإتيان بما في هذه الآية ومثلها في أمكنة أخرى، وضرر القول بزيادتها لفوات هذا من المعنى المراد فيها، عصمك اللّه، وسنزيدك توضيحا عن مثلها في آية التوبة الآتية إن شاء اللّه، أما إذا لم يتقوا وفعلوا هذه المحرمات والعياذ باللّه بعد تحريمها عليهم ومعرفتهم بالتحريم وعلمهم به فهم في خطر عظيم إذا لم يتداركهم اللّه برحمته بإلهامهم التوبة النّصوح عنها، ويدخل في هذه الآية من يدخل بالإسلام بعدها فإن اللّه تعالى يعفو عما وقع منه قبله ويصير حكمه حكم المؤمنين.
واعلم أن كلمة (طعم) تطلق على الأكل والشّرب والنّوم، وعلى هذا قوله:
فإن شئت حرمت النّساء سواكم ** وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

النقاخ الماء والبرد النّوم ومثلها كلمة طبخ تطلق على المأكول والملبوس وعليه قوله:
قالوا اقترح شيئا تجد لك طبخة ** قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

أخرج الترمذي عن البراء بن عازب قال مات ناس من الأصحاب وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كيف بأصحابنا الّذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية.
وروى مسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال لما أنزلت هذه الآية ليس على الّذين إلخ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قيل لي أنت منهم يعني قبل لرسول اللّه ان ابن مسعود منهم، والقائل واللّه أعلم جبريل عليه السّلام، وليس هذا بكثير على صاحب رسول اللّه وحواريه.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} يختبركم ويمتحنكم به حال إحرامكم بالحج أو العمرة، وذلك أن اللّه تعالى ابتلاهم بالصيد فصارت الوحوش تغشي رحالهم، فهموا بأخذها لأنها كانت منهم، كما قال تعالى: {تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ} لقربه منكم كالأفراخ والبيوض وما لا يقدر أن يفرّ أو يهرب {وَرِماحُكُمْ} تنال كبار الصّيد كحمر الوحش والغزلان والطّيور لأن اللّه تعالى جعله عليهم بكثرة وأوقع عليه السّكينة، وهذا كابتلاء بني إسرائيل بالحيتان إذ جعلها في يوم السّبت تعوم على وجه الماء وشاطئه ليختبرهم أيضا، فلما أجرموا عليها وأخذوها هلكوا راجع الآية 162 من الأعراف في ج 1 وذلك بسبب احتيالهم على صيدها {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} أي ليعلم عباده لأنه عالم من قبل بما يقع منهم قبل إظهاره لهم {مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ} ممن لم يخفه أي من ينفذ أمره من حيث لم يره، فلم يصطد حالة الإحرام ممن يخالف أمره فيصيد، ولهذا قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى} أي صاد حالة الإحرام، وقال تعالى اعتدى بدل صاد لما فيه من التعدي على حدود اللّه إن صاد {بَعْدَ ذلِكَ} الاختبار والنّهي {فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ} (94) في الآخرة لأن التعرض للصيد والاعتداء عليه خروج عن طاعة اللّه تعالى وانخلاع عن خشيته ومكابرة وعدم مبالاة في أمره ونهيه وإن لم يراع أحكام اللّه في هذه المسائل الهينة لا يهابه في الأمور العظيمة، ولهذا شدد العقوبة على مرتكبها كما شددها على بني إسرائيل، وإذ مسخهم قردة وخنازير ولكن اللّه لطف في هذه الأمة المحمدية ورفع عنها المسخ الظّاهري حرمة لنبيها صلّى اللّه عليه وسلم.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ} أيها المحرمون مناوئا أمر اللّه {مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ} في الدّنيا أن يتقرب إلى اللّه تعالى {مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أي مثل الذي صاده في الخلقة والجثة، وإذا لم يكن له مثل فمثل قيمته.
واعلم أن مثل النعامة الجمل، ومثل حمار الوحش البقرة، ومثل الضّبع الكبش، ومثل الظّبي الشاة والأرنب السّخل والضّب السّخلة واليربوع الجفيرة وهي التي بلغت أربعة أشهر من ولد الشّاة والجفر الذكر، ومثل الحمامة وكلّ ما عب وهدر من الطّيور كالفاخقة والقمري وذوات الأطواق شاة، وما سواها من الطّير ففيه القيامة بالمكان الذي أصيب فيه، وهذا الحكم عام.
وما قيل أن سببه أبو اليسر كأن شد على حمار وحش وهو محرم فقتله على فرض صحته لا يخصصه فيه ولا يقيده به، فهو حكم مطلق عام إلى يوم القيامة، وعليه فلا يحل الصّيد ولا التقيد ولا التعرض له مادام الرّجل محرما وفي الحرم ولو غير محرم، والمرأة كذلك.
روى البخاري ومسلم عن أبن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال خمس من الدّواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور.
ورويا عن عائشة مثله.
ويستفاد منه أن لا شيء في قتل السّباع من البهائم الضّارية قياسا على الكلب العقور كالذئب والنّمر والفهد وغيرها، ولا الحشرات المضرة كالحيّة والرّتيلة وغيرها.
وظاهر القرآن أن الصّيد خطأ لا جزاء فيه، وبه قال سعيد ابن جبير، وعامة الفقهاء والمفسرين على خلافه على أن الحق واللّه أعلم معه إذ لا قياس في الكفارات، ولأن اللّه تعالى خصه بالتعمد صراحة، والمخطئ غير المتعمد فكيف يوجبه عباده، وقد جاء في الحديث الصّحيح عنه صلّى اللّه عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه، فلما ذا نوجبه نحن؟ قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ} إذا اختلفتم في مثله عينا أو قيمة، فحكموا أيها المسلمون العادلين منكم بذلك وافعلوا ما يحكمان به وسوقوه {هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ} وأصلا إلى الحرم داخلا فيه ويذبح هناك ويتصدق به إن شاء.
قالوا تفيد الآية أن المثل القيمة لا العين، لأن التقويم مما يحتاج إلى النّظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة، ولأن المثل المطلق في الكتاب والسّنة والإجماع مقيد بالصورة والمعنى أو بالمعنى لا بالصورة أو بالصورة لا بالمعنى، ولأن القيمة أريدت فيما لا مثل له اجماعا فلم يبق غيرها إجماعا مرادا، ولا عموم للمشترك، إلا أن قوله تعالى: {من النّعم} يوجب المثل لا القيمة، وهو ظاهر القرآن، ولا موجب للانصراف عنه.